ما هو اقتصاد الأثر؟

يدعو تشاندران ناير، المؤسس والرئيس التنفيذي للمعهد العالمي للغد، إلى سرد جديد لتكريم الوجود البشري

Annie Spratt VL Qqramfok Unsplash

تشاندران ناير هو المؤسس والرئيس التنفيذي للمعهد العالمي للغد (GIFT)، وهو مركز أبحاث مقره هونغ كونغ يُركز على إعادة تعريف دور الأعمال والحكومة في المجتمع. وهو مؤلف للعديد من الكتب حول الاستدامة والاقتصاد ومستقبل التنمية العالمية. ويستند هذا المقال إلى خطاب قد ألقاه في فعالية بدبي استضافته «ماجرا»، وهو الصندوق الوطني للمسؤولية الاجتماعية للشركات في دولة الإمارات العربية المتحدة.

إن مناخ العالم في وضع حرج ومحفوف بالمخاطر. وكوني من جنوب شرق آسيا، فإنني رأيت عن كثب كيف أن أقدم غابة مطيرة في العالم، والتي كانت تعجّ في السابق بالنباتات المتنوعة بيولوجياً، قد أصبحت تتعرض حالياً لتهديد جسيم. وغالباً ما تضع الروايات السائدة اليوم عبء التدمير البيئي على عاتق صغار المزارعين ومجتمعات السكان الأصليين. ومع ذلك، فإن القوى الأعمق التي تلعب دورها إنما تكمن في مُحرك اقتصادي عالمي استغلالي قائم على استخراج بيئي غير خاضع لرقابة، وممارسات غير مستدامة، وإفراط في الاستهلاك.

ولقد غذى هذا النموذج الاقتصادي العديد من أزمات اليوم—من تغير المناخ، وتدهور التربة، والمحيطات المختنقة بالبلاستيك، إلى التوسع المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، وتفاقم جائحة الصحة النفسية. وهذا لأن جوهر النموذج الاقتصادي العالمي يكمن في أوهام الموارد اللامحدودة، والنمو اللامتناهي، والاعتقاد الخاطئ بأن الأسواق قادرة بطريقة أو بأخرى على تصحيح الدمار الذي يُحدثه هذا النموذج.

إن تحليلي للنموذج الاقتصادي الحالي قد تم تشكيله رغم إقامتي لأكثر من 30 عاماً في هونغ كونغ، وهي إحدى المراكز المالية الرائدة في العالم، وأنشوطة رئيسية في النظام الاقتصادي العالمي المهيمن. ولكنني لستُ مناهضاً للرأسمالية، ولا من دعاة حماية البيئة النمطيين الذين يعانقون الأشجار ويركبون الدراجات. وإنما أرى نفسي ببساطة كشخص يسعى جاهداً لإيجاد حلول عملية من خلال تحديد ومعالجة العيوب النظامية، تماماً مثلما فعل صُناع القرار السياسي في الصين على مر السنين.

وقد كانت انطباعاتي المبكرة عن الصين في أواخر الثمانينيات هي أنها أمة نامية وفقيرة وملوثة. ومع ذلك، بعد أن أمضيت ثلاثة عقود على مقعد في الصف الأمامي أتابع فيها صناعتها للقرارات السياسية، وديناميكيات مجتمعها المدني، ودور الدولة، فإنني أصبحت اليوم أرى أن تنمية الصين، وإن لم تكن خالية من أوجه القصور، تُعتبر لافتة للنظر ورائعة في كثير من النواحي. فالقليل جداً من المجتمعات الدولية تستطيع أن تقول بأنها نجحت في انتشال 800 مليون شخص من براثن الفقر، وفي تقديم نموذجاً فريداً لما يسميه البعض بـ "اقتصاد الأثر".

"إن الربح ليس حق مضمون؛ إذ لا يمكن لأي شركة أن تعمل وفق نموذج ضار أو معاد للمجتمع، وأن تجني الأرباح، ثم تحاول التعويض من خلال المسؤولية الاجتماعية للشركات."

Kate Trysh U3cntdq16yy Unsplash

يعتقد تشاندران ناير أن دولة الإمارات، بفضل سجلها الحافل في تنفيذ الخطط الطموحة، تمتلك القدرة على أن تصبح العاصمة الفكرية لهذا النقاش. الصورة: كيت ترايش / UnSplash

ولكن ما هو المعنى الحقيقي لمصطلح "اقتصاد الأثر"؟ إنه سؤال عميق، ويستحق دراسة متعمقة.

إن دولة الإمارات العربية المتحدة، بروحها الثاقبة وسجلها الحافل في تنفيذ الخطط الطموحة، والتي تشبه هونغ كونغ القديمة، تتمتع بالقدرة على أن تصبح عاصمة فكرية للرد على هذا السؤال والخطاب.

وفي بعض الأحيان، يمكن للأجندة الفورية للنمو الاقتصادي أن تلقي بظلالها على تركيزنا على أهداف تنموية أعمق وطويلة المدى. ولأجل تغيير هذه العقلية، فإنه يجب علينا أن نتبنى فكرة رئيسية: وهي إن إنشاء اقتصاد الأثر ينطوي على تشكيل سرديات قوية والتفاعل معها.

واليوم، في كثير من الأحيان، فإنه يتم تقليص موضوع الاستدامة إلى مجرد شعارات، ويتم اختطاف البحوث العلمية في سياقات تسويقية وعلامات تجارية مُبسطة.

إن مجال عملي يشمل إجراء ورش عمل ما حول العالم، حيث أطرح فيها سؤالاً مخادعاً من شدة بساطته: "ما هو الغرض من عالم الاقتصاد؟" والردود التي تتبع دوماً تكون كاشفة ومُعبّرة.

وعادة ما يستخدم المشاركون في ورشة العمل مصطلحات شائعة وكلمات طنانة مألوفة مثل "النمو"، و "الثروة"، و "أسواق الأسهم"، و "الاستثمار الأجنبي المباشر"، ولكنهم نادراً ما يتطرقون إلى الغرض الأعمق للأنظمة الاقتصادية. وينبع سوء الفهم هذا لمجال الاقتصاد من عقود من التعرض لأطر فكرية غير نزيهة تُعطي الأولوية للنمو على التنمية، والربح على الغرض، والمقاييس على المعنى.

وفي جوهره، فإن الاقتصاد هو إدارة الموارد لإطلاق العنان لإمكانات رأس المال—البشري والمالي والاجتماعي—لإنتاج سلع وخدمات تُلبي وتخدم احتياجات المجتمع. ولا ينبغي للاقتصاد أن يكون موجوداً لأجل تمكين أصحاب المليارات من تجميع أساطيل سيارات، ولكن للحد من المعاناة الإنسانية وضمان أن يعيش الأغلبية حياة كريمة ومُرضية، وخالية من الحرمان وانعدام الأمن والنضال المستمر لتلبية الاحتياجات الأساسية.

ومع ذلك، يبدو أن الجهات الفاعلة المسؤولة عن تنفيذ هذه الأهداف، أي الحكومات، قد ضلت طريقها من خلال مطاردة مقاييس زائفة مثل الناتج المحلي الإجمالي. ومن المفارقات الساخرة هي أنه يمكن للناتج المحلي الإجمالي أن يزداد ببناء المزيد من السجون، ولكن ليس بالحد من الجريمة داخل المجتمع. وهذا يسلط الضوء على تناقضات نموذجنا الاقتصادي الحالي.

وجزئياً، يعود استمرار هذا النظام إلى أن الكثير مما يتم تدريسه في الاقتصاد والسياسة العامة لا يزال راسخاً على نظريات غربية قديمة عمرها قرن من الزمان. ولذا، لإحداث تغيير ذي مغزى، يجب علينا أن نعترف أولاً بأن هذه النظريات ليست قوانين طبيعية ثابتة؛ بل إنها تركيبات بشرية، والتي غالباً ما يتم التلاعب بها لخدمة مصالح معينة وخاصة.

"يجب أن نكون جريئين في إعادة تصور المستقبل، ليس فقط من خلال التقدم التكنولوجي، بل من خلال الابتكار الاجتماعي أيضاً."

وفي المعهد العالمي للغد (GIFT) ، فإننا قد قمنا بتطوير منهج تعليمي تنفيذي مصمم لمواكبة واقع القرن الحادي والعشرين. وإنه يشجع على إعادة التفكير بشكل جذري في كل من الاقتصاد والحوكمة والأعمال التجارية. وإننا نتحدى الافتراض القائل بأن الربح حق مضمون؛ إذ لا يمكن لأي شركة أن تعمل وفق نموذج ضار أو معاد للمجتمع، وأن تجني الأرباح، ثم تحاول التعويض من خلال المسؤولية الاجتماعية للشركات. وهذا النهج لا يعكس أثراً مخلصاً؛ بل يكشف النقاب عن النفاق.

ولقد حان الوقت لكسر الحدود المصطنعة ما بين الشركات والمؤسسات الاجتماعية؛ فمن الناحية المثالية، يتحتم أن تكون كل شركة هي مؤسسة اجتماعية من المنطلق التصميمي. وفي حقيقة الأمر، يجب أن يكون الغرض الأساسي لأي منظمة هو خدمة المجتمع، وليس فقط خدمة المساهمين.

ولا شك إن الطريقة التي نتعامل بها مع السنوات الخمس والعشرين القادمة سوف تشكل مسار القرن الحادي والعشرين. ويزداد إلحاح هذا الأمر بفعل التحول السريع للتركيبة السكانية العالمية. وبينما كان عدد سكان العالم أربع مليارات نسمة في عام 1980، فإنه قد تضاعف إلى ثماني مليارات اليوم. ولا سر هنالك في أننا نقترب من وسع كوكبنا وحدوده. ولا يمكننا الاستمرار في الاعتماد على النظريات الاقتصادية التي استخدمتها الشركات التجارية الاستعمارية في القرن التاسع عشر لإرشادنا نحو المستقبل.

ويجب أن نتحلى بالجرأة في إعادة تصور المستقبل، ليس فقط من خلال التقدم التكنولوجي، ولكن من خلال الابتكار الاجتماعي أيضاً. وفي حين أنه من الصحيح أننا أصبحنا نمتلك الآن إمكانية وصول إلى تقنيات قوية مثل الذكاء الاصطناعي، إلا أنه من المهم بنفس القدر إدراك أن تطبيقها ضمن أطر اقتصادية واجتماعية عتيقة إنما يجازف بتعميق نفس القضايا التي تسعي لحلها، مثل عدم المساواة، واستخراج الثروات، وتركيز السلطة. ولذلك يجب أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي—وجميع التقنيات الحديثة—بتفكير نقدي وحذر.

وبناء عليه، فإنه ينبغي على الابتكار أن يكون اجتماعياً، وليس مجرد تكنولوجياً.

ولتقديم مثال، فإنني كثيراً ما أسأل الشباب: "ما هي أهم تكنولوجيا اليوم؟" والإجابات متوقعة—الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والإنترنت. ولكن إذا تأملنا في حقيقة ما أنقذ الأرواح خلال جائحة كوفيد-19 عام 2020، فإنه يصبح من الواضح أنها لم تكن خوارزميات أو حوسبة سحابية، بل كانت النظافة الصحية، والصرف الصحي، والوصول إلى مياه نظيفة. ويجب علينا أن نهدف إلى البدء من هناك.

إن العالم المتصل سلكياً أو لاسلكياً لا يزال بحاجة إلى أنظمة صرف صحي فعّالة. وإن التقدم الحقيقي لا يعني ربط المجتمعات بالألياف الضوئية فحسب، ولكن أيضاً بالمياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي المناسبة. كما يجب قياس التقدم بما يدوم—وهي بنية تحتية أساسية تصون الكرامة البشرية. وهذا هو جوهر "اقتصاد الأثر".