الفهم الصحيح لاستراتيجيات البيانات

رائدة العطاء اللبنانية لين زوفيكيان تشرح لماذا علينا الاستثمار في البيانات وأهمية إتاحة الفرصة أمام المجتمعات المحلية للتعبير الصادق عن آرائها وتطوير الحلول المحلية

Shutterstock 1351936808

لين زوفيكيان هي المديرة الإدارية لـ Zovighian Partnership (ZP)، وهي منصة للاستثمار الاجتماعي شاركت في تأسيسها مع والدها ميشال زوفيكيان بهدف تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتأثير الشامل والمستدام في منطقة الشرق الأوسط. يقع المقر الرئيسي لـ ZP في بيروت، وتدير المنصة مجموعة من المشاريع في المجال الإنساني والتنمية الاجتماعية مع المجتمعات المحلية في لبنان والمملكة العربية السعودية والعراق. كما يعمل المكتب العام لـZP ، وهو الذراع الخيرية للعائلة التي تركز على بناء السلام، بشكل مكثّف مع المجتمعات المهمشة والمحرومة في لبنان ومع المجتمع الإيزيدي في العراق.

 

أعمل منذ نحو عقد من الزمن مع بعض أكثر المجتمعات فقراً وتهميشاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في لبنان والمملكة العربية السعودية والعراق، ويمكنني وصف الوقت الذي أمضيته في العمل معها حتى الآن بأنه منحنى تعليمي شديد الانحدار. لقد علمني الواقع الذي تعيشه تلك المجتمعات أنه حتى العطاء النابع من إحساس عميق بالتعاطف لا يمكنه أن يحقق ما يكفي من الخير.

كما علمتني تلك المجتمعات أيضاً أننا كروّاد عطاء ومستثمرين اجتماعيين وبناة سلام بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في النهج المقبول في إعداد البرامج الذي يتولى فيه المانحون زمام القيادة والتحلي بحس أعمق من التيقظ والتواضع خلال مساعينا للعطاء وعمل الخير.

وهناك العديد من الأساليب والقيم التي يمكن للأعمال الخيرية الاسترشاد بها، غير أنني وفريقي في The Zovighian Partnership  نتبع ثلاث قواعد أساسية لضمان أن يتسم العطاء بأعلى قدر ممكن من الأخلاقية والفعالية.

1. نستثمر في البيانات الدقيقة 

تعاني منطقة الشرق الأوسط من أزمة مزمنة تتعلق بتوفر البيانات. وتجعل ندرة البيانات هذه اتخاذ قرارات سليمة أو أخلاقية أو مدروسة أمراً مستحيلاً نظراً لوجود عدد قليل جداً من الأطر المرجعية والمعايير وأسس المقارنة. وينطبق ذلك بصفة خاصة على الأزمات الإنسانية المعقدة والممتدة التي تشهد تحديات مترابطة لدرجة يصبح من المستحيل معها تحديد نقاط البداية والوسط والنهاية.

من هنا يكاد يكون من المستحيل القيام بالتدخلات القائمة على الأدلة في هذه المنطقة. وعلى الصعيد الميداني يمكنك ملاحظة تأثير ذلك بسهولة على الاستثمارات الاجتماعية والمجتمعات التي نسعى لخدمتها. فبدلاً من الحصول على صورة واضحة للتدخلات المطلوبة والجهات التي يجب أن تنفذها وكيفية القيام بذلك، نصطدم بشكل متكرر بأخطاء ظاهرة وغير ظاهرة تؤثر سلباً على أداء التدخلات الحاسمة الأهمية.

علاوة على ذلك، يؤدي اتخاذ القرارات دون الاستناد إلى ما يكفي من البيانات وإلى قدر ملائم من الشفافية إلى تشويه القطاعين الخيري والإنساني، وطرح مسائل تتعلق بعدم الثقة، والتشكيك في شرعية البرامج التي لا يمكنها تحمل تبعات الإخفاق في ضوء هول الاحتياجات التي تسعى لتلبيتها.

وللتصدي لهذه الفجوات في البيانات، قمنا في ZP بإنشاء وحدة للأبحاث والتطوير لتوظيف البحث العلمي وشبه العلمي لكي تسترشد بهما تدخلاتنا الاستراتيجية ولضمان أن تظل البرامج في مسارها الصحيح. لقد تعلمنا بمرور الوقت أهمية الحفاظ على مرونة بياناتنا لضمان أن تبقى قراراتنا وثيقة الصلة وأن يتم اتخاذها في الوقت المناسب.

"نحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في النهج المقبول في إعداد البرامج الذي يتولى فيه المانحون زمام القيادة والتحلي بالتواضع تجاه الأشخاص الذين نسعى لمساعدتهم".

2. نسمح للمجتمعات المحلية بالتعبير عن آرائها ونحرص على أن تكون على قدم المساواة في صنع القرار

من أجل الاستفادة بالكامل من قوة البيانات، لا بد من جمعها بقيادة المجتمعات المحلية وبطريقة تتمحور حول الإنسان. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن نرتقي بأفراد المجتمع من مجرد مشاركين في الأبحاث إلى صانعي قرار يتمتعون بالإمكانات. فالحكمة التي يتحلون بها هي التي تؤدي إلى اتخاذ قرارات تتميز بالمرونة والدقة والموثوقية لأنهم فقط من يعيش تلك التجارب الصعبة التي نسعى لفهمها كرواد عطاء والتخفيف من حدتها.

مع ذلك لكي نتمكن من إعطاء صوت حقيقي للمجتمعات المحلية لا بد أن نكون مدركين لكيفية تناولنا لعملية جمع البيانات وأن لا نقوم بذلك بصفتنا ممولين يسعون إلى التثبت من صحة البيانات بل كشركاء منفتحين على التعلُّم.

وفي البيئات التي تتسم بالحساسية لا ينبغي فقط أن نطلب من المجتمعات أن تقدم لنا المشورة - لأن طريقة التفكير هذه تفترض مسبقاً أننا العوامل المحركة وصانعو القرار فيما يخص مستقبلهم - بل يجب أن تتم عوضاً عن ذلك دعوتنا كضيوف وأن نعمل على مد جسور الثقة من خلال التعاطف معهم.

وكممولين ينبغي علينا العمل بجد ومثابرة لتحديد المكان الأنسب بالنسبة لنا لنكون بمثابة أصول ذات قيمة للمجتمعات المحلية بدلاً من اتخاذ القرارات مقدماً ومن ثم نقوم بتعديل الآراء لتحقيق ذلك. بعدها علينا التأكد من أن المجتمعات المحلية تتمتع بقدر كبير من الملكية للبرنامج أو المنصة التي نقوم بتمويلها.

إن تبني منظور بحثي شامل يتميز بأعلى درجة ممكنة من الشمول والإنصاف في الاستفادة من أفراد المجتمع ويعكس أكبر تنوع في الأصوات يجعل إمكانية التوصل لحلول مؤثرة غير محدودة.

وهذا ما حصل بالفعل في المملكة العربية السعودية حيث نعمل كباحثين ومديرين لمشروع البيضاء للإسكان في مكة المكرمة. فقد أثارت الأسئلة الاستراتيجية الرئيسية إشكاليات أخلاقية كبيرة، وهو ما استلزم التعامل معها بحذر من خلال الأبحاث المرتكزة على المجتمع والقائمة على مستويات عالية من المشاركة.

على سبيل المثال، كيف يمكننا تصميم منازل تحافظ على الثقافات والتقاليد المعيشية للمالكين والمستفيدين في المستقبل؟ في مجموعات التركيز الخاصة بكل من الرجال والنساء، أصبحت النساء مشاركات رئيسيات في الأبحاث لأنهن سلطن الكثير من الضوء على تجاربهن الحية التي وضحن خلالها كيف تشكل منازلهن الحالية أصولاً وأعباء على حد سواء بالنسبة لأسرهن.

بالمثل نعمل في لبنان مع المنظمات غير الحكومية المحلية لتصميم آليات أكثر إنصافاً لتقديم المنح للقطاع الإنساني بحيث تخدم الجهات المتلقية لها. فمنظمات المجتمع المدني الصغيرة التي تعمل على الخطوط الأمامية محرومة منذ فترة طويلة جداً من فرص الحصول على التمويل بسبب قدراتها المحدودة التي تحول دون تلبيتها لشروط المنح المعقدة والمرهقة.

ولذلك فإن السماح الفئات المستهدفة والمجتمعات بالتعيير عن أصواتها أمر واجب إذا أردنا التأكد من أن بياناتنا صحيحة وقادرة على إخضاع قراراتنا للمساءلة.

"من أجل الاستفادة بالكامل من قوة البيانات، لا بد من جمعها بقيادة المجتمعات المحلية وبطريقة تتمحور حول الإنسان".

3. نضع النماذج الأولية وفقاً للتجارب والخبرات المحلية

إن ترسيخ القرارات في الحوكمة التي تقودها المجتمعات المحلية والمستندة إلى الأبحاث العالية الجودة توفر إمكانات هائلة للتوصل لحلول محلية. ولا بد من تجربة هذه الحلول واختبارها واجتيازها لمراحل وضع النماذج الصارمة والأخلاقية - ويجب تكريس الوقت من أجل تحقيق ذلك.

يمكن أن يساعد التصميم من أجل تجربة معينة والتوصل لنتائج تعليمية محددة نماذجنا الأولية على إثبات المفهوم، وهو ما يفتح الباب أمام التدخلات الاستراتيجية المصممة بصورة متكررة والتي تناسب مجموعات سكانية أوسع في بيئات مماثلة.

وبصفته النموذج الوطني للإسكان التنموي في المملكة العربية السعودية، فإن مشروع البيضاء للإسكان يستثمر بكثافة في الأبحاث بهدف وضع نماذج أولية لتدخلات إسكانية في مجتمع يبلغ عدد سكانه نحو 6,000 شخص.

وكلما ارتفع مستوى نزاهة الأبحاث، زادت إمكانية الاستفادة منها لتوفير حلول قابلة للتوسع في بيئات ريفية وشبه ريفية أخرى. وبالنظر إلى هذه المسؤولية الهائلة، فإننا نخصص الوقت الكافي للتعلم والاختبار، جنباً إلى جنب مع العديد من أصحاب المصلحة في القطاع الحكومي.

بالمثل تساعدنا الأبحاث التي نقوم بها في لبنان على إعادة تصميم نماذج التمويل بعيداً عن ديناميات السلطة السياسية وإضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى رأس المال الذي تشتد الحاجة إليه لخدمة الفئات التي تفتقر إلى الدعم الكافي.

لقد أكملت أنا وفريقي النموذج الأولي لوسيلة لتقديم المنح استخدمت هذه الأبحاث لبناء الثقة في أوساط منظمات المجتمعات المحلية الأحدث عهداً. يجمع نموذجنا الأولي بين التمويل ومتطلبات بناء القدرات المحددة بشكل مشترك والتي قام أعضاء المجتمع المدني بإبلاغنا عنها من أجل تعزيز قدرات المنظمات العاملة على الخطوط الأمامية واستدامتها. وكانت النتيجة عبارة عن محرك يمكنه الآن توسيع نطاق التمويل للبنان بدرجة عالية من النزاهة وعوائد أعلى على الاستثمار الاجتماعي.

لقد جعلتُ مهمتي الأساسية منح المجتمعات والفئات المستهدفة الحق والسلطة لمساءلتي ومساءلة فريقي دوماً عن هذه المسؤوليات المنهجية الثلاث.

وفي حين أن الأمر لا يخلو من التحديات، إلا أن الأثر الذي يتركه هذا النهج لا غنى عنه مطلقاً. لقد اكتشفت أن الالتزام البالغ بالأبحاث الموثوقة والعالية الجودة والمرتكزة على الآراء المتنوعة المستقاة من المجتمعات المحلية فضلاً عن تكريس الوقت لوضع النماذج الأولية والتعلُّم يمكننا حقاً من احترام قسم أبقراط والتأكد من أننا لا نلحق الأذى خلال سعينا لفعل الخير.

تظهر الصورة أعلاه لاجئين سوريين في لبنان. الصورة: إسبن راسموسين/ بانوس.