لماذا علينا تبسيط عملية تقييم الأثر

كلير وودكرافت، الخبيرة في مجال العمل الخيري، تتحدث عن استعادة الحماس والشعور بالرضا لدى القيام بالرصد والتقييم

Shutterstock 1906857748

كلير وودكرافت هي قيادية بارزة على مستوى العالم في مجال العمل الخيري والاستثمار الاجتماعي. عملت كلير سابقاً كرئيس تنفيذي لمؤسسة الإمارات وعملت كذلك في شركة فيزا وشركة شيل وفي عام 2020 شغلت منصب المدير التنفيذي المؤسس لمركز العمل الخيري الاستراتيجي في كلية إدارة الأعمال بجامعة كامبريدج. وتشغل كلير، وهي مستشارة للأفراد أصحاب الثروات والشركات ومنظمات القطاع الثالث، العديد من الأدوار غير التنفيذية/الاستشارية مع مجموعة من المؤسسات الخيرية من بينها مؤسسة شانيل ومؤسسة سوميريان ومركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد وشراكة كامبريدج للتعليم في جامعة كامبريدج ومعهد جامعة كامبريدج لقيادة الاستدامة وجامعة الإمارات العربية المتحدة وشبكة وينجز. كما شغلت سابقاً منصب رئيس ملتقى المؤسسات العربية الداعمة.

منذ زمن ليس ببعيد، بدا أن جميع مؤسسات القطاع الثالث قد انطلقت في رحلة للرصد والتقييم (M&E) ساعية بشغف إلى بناء قدرتها على التقييم من أجل الامتثال لأفضل الممارسات وتقييم أدائها الكلي.

وتحظى هذه الخطوة بترحيب كبير في قطاع غالباً ما يُتهم بالتعتيم وعدم الوضوح. لكن، لسوء الحظ، تُرجمت هذه المساعي في الكثير من الحالات إلى عملية مضنية يتم خلالها استخدام الأدوات والأطر المعقدة التي لا تفضي دائماً إلى مخرجات يُستفاد منها لتحقيق غرض معين.

من الرسوم البيانية المعقدة إلى المقاييس الدقيقة ونظريات التغيير وتحليلات البيانات، يمكن أن يكون بناء قدرات القياس أمراً مربكاً. فالوقوع في مستنقع المنهجيات قد يؤدي إلى وضع أعباء بيروقراطية لا ضرورة لها على كاهل الفرق التي تعاني من نقص الموارد، ما يسلب منها بهجة تحقيق الأثر. فكيف يمكننا إذاً القيام بعكس ذلك والعمل على بناء نظام يُلهم الآخرين؟

تواجه معظم المنظمات التي أقدمت على بناء قدرات القياس الخاصة بها مجموعة معقدة من الأسئلة مثل: ماذا يجب أن نقيس ولماذا؟ مَن يجب أن يقوم بالقياس وكيف؟ وهل يعتبر الرصد والتقييم مهمة فرق البرنامج، أم أنه يتطلب تعيين موظفين وتخصيص موارد لإنجاز هذه المهمة؟

إذا كان الرصد والتقييم بحاجة إلى تعيين الموظفين وتخصيص الموارد، فكيف يمكننا ضمان أن يصبح أداة مؤسسية بدلاً من تحويله إلى آلية شرطية لمراقبة البرامج؟ وكيف نشرك جميع أعضاء الفريق، بغض النظر عن أدوارهم ومهامهم، ليس فقط في عملية جمع البيانات المفيدة التي تُسهم في إبراز عملهم ومشاركتها، بل في التعلم من الفشل كذلك؟

هناك الكثير من الأمور التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار قبل أن نبدأ في استكشاف عالم الرصد والتقييم المتنامي والأكثر ديناميكية من أي وقت مضى.

Shutterstock 525950377

تسلب أنظمة القياس والإبلاغ المرهقة للغاية الوقت من العمل الأساسي للبرنامج. الصورة: آي ستوك.

توجد اليوم مجموعة واسعة ومتنوعة من أدوات قياس الأثر والتي تشمل: أداة  IRIS التابعة للشبكة العالمية للاستثمار المؤثر (المشار إليها باسم "النظام المقبول عموماً لقياس الأثر وإدارته وتحسينه")؛ والمبادئ التشغيلية لإدارة الأثر   OPIM التي تم إطلاقها في اجتماعات مجموعة البنك الدولي/صندوق النقد الدولي في عام 2019؛ والمؤشرات المنسقة لعمليات القطاع الخاص HIPSO التي تم استحداثها لتكون "حجر الأساس للمقاييس خلال تنفيذ المبادئ التشغيلية لإدارة الأثر"؛ ومنهجية العائد الاجتماعي على الاستثمار SROI، التي ابتكرتها مؤسسة SOPACT الاجتماعية التي تستخدم التكنولوجيا لتطوير قياس الأثر؛ ومجلس معايير الاستدامة الدولية ISSB الذي تم الإعلان عنه في مؤتمر COP26 في غلاسكو تلبية للطلب القوي في السوق على توفير منهجية قياسية، فضلاً عن الأطر الخاصة بمؤسسة التمويل الدولية IFC ومنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي OECD.

ولكل أداة مزاياها الخاصة وجمهورها الخاص. فعلى سبيل المثال، تملك جامعة ستانفورد أداة تسمى بوصلة الأثر Impact Compass، ويملك بنك ’يو بي إس‘ المبادئ التشغيلية لإدارة الأثر، في حين تدعم مؤسسة ’روكفلر فلانثروبي أدفايزرز‘ عملائها بمنهجية قياس الأثر. من ناحية أخرى، تساعد الشبكة الآسيوية للعمل الخيري الاستثماري (AVPN) أعضائها بدليلها الخاص حول التقييم الفعّال للأثر، ولكن في إطار هذا الدليل تشير أيضاً إلى العديد من الخيارات الأخرى للرصد والتقييم، من مجموعة المعايير العالمية للإبلاغ حول الاستثمار المؤثر إلى قياس المخاطر والأثر والاستدامة (PRISM)، ومبادرة الإبلاغ العالمية (GRI) والدليل الجديد للاستدامة G4 الصادر عنها.

لذلك هناك بالفعل خيارات كثيرة بالإضافة إلى التحدي الصعب جداً والمتمثل في تحديد ما يجب اختياره. وعندما تقوم بإضافة إطار أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة إلى هذا الخليط، فإنك تصبح مشوشاً بالفعل.

"نادراً ما يضيف القياس من دون هدف واضح أي قيمة".

غالباً ما تكون نتيجة عمليات الرصد والتقييم الأكثر صدقاً هي مراجعة المئات من نقاط البيانات التي تتطلب تجميعاً وتحليلاً معقداً، والتي يصعب إضفاء الطابع المؤسسي عليها. علاوة على ذلك، فإن الإصرار على قيام الفرق المسؤولة عن البرنامج بوضع كميات ضخمة من المقاييس ومن ثم تحليل البيانات أثناء قيامها أيضاً بأنشطتها المعتادة لا تقدم فائدة كبيرة ما لم تكن هناك قدرة كافية لتحويل البيانات إلى استراتيجية والتعلم منها.

ونادراً ما يضيف القياس من دون هدف واضح أي قيمة. بل على خلاف ذلك يمكن للقياس من أجل التعلم وصقل البرامج وتحسينها أن يوفر معلومات قيّمة لفهم عملية تغيير الأنظمة وتطبيقها.

وفي سياق الجنوب العالمي، حيث توجد "فجوات مؤسسية" معينة يمكنها أن تعرقل أموراً من قبيل النشر الفعّال للمعرفة، والتخطيط على المدى الطويل، والإدارة السليمة وتنمية القدرات، فإن القيام بالرصد والتقييم بالشكل الصحيح يُعد أكثر صعوبة.

وهنالك أيضاً الكثير من الأمثلة على المنظمات التي تعاني من نقص الموارد والتي تكافح من أجل تخصيصها للرصد والتقييم. فقد أظهر البحث الذي أجرته منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي لعام 2021 حول العمل الخيري من أجل التنمية أن 60 في المئة من المنظمات التي تم استطلاعها وجدت أنه "يصعب عليها إعداد تقييمات تتميز بالجودة".

ويتطلب الرصد والتقييم الفعالين مشاركة أكثر من شخص يعمل بدوام كامل من أجل تعزيز المعارف والقدرات، وهو أمر ليس في المتناول في بعض الأحيان بسبب محدودية التمويل واستنفاد القدرات.

ويمكن أن تتطلب المناقشات التي تتم داخل المنظمة حول الأدوات التي لا بد أن تتبناها والأشخاص الذين يجب أن تتعامل معهم داخلياً وخارجياً وكيفية تحديد نطاق المبادرة، مباحثات مطولة بين أعضاء الفريق التنفيذي بالإضافة إلى المشاركة الرسمية من قبل مجلس الإدارة.

إن العمل بفريق صغير لا يضم أعضاء متخصصين في عملية الرصد والتقييم يعرّض المنظمة لخطر صرفها على نحو غير متناسب عن تحقيق أهدافها وقد يشكل ذلك عائقاً أمام نجاحها.

Shutterstock 2264918939 (2)

تقول كلير وودكرافت، الخبيرة في مجال العمل الخيري، أن قياس الأثر لا يتعلق فقط بالأدوات بل أيضاً بطريقة التفكير. الصورة: شاترستوك.

إذا تم النظر إلى بناء القدرة على الرصد والتقييم على أنه تمرين تقني يركز إلى حد كبير على جمع البيانات، فإنه يغفل عن فرص مهمة أو فوائد محتملة. عندما توليت قيادة مؤسسة كبيرة في الإمارات العربية المتحدة، شعرت بالدهشة في البداية لمعرفة أنه لا يوجد لدى هذه المؤسسة عمليات للقياس. لكنني أعجبت بشدة بأن لدى فريقها - حتى في ظل غياب البيانات - فهم عميق للأنشطة الفعّالة وغير الفعّالة.

وعندما بدأنا عملية التغيير داخل المؤسسة باعتماد استراتيجية عمل جديدة وتحسين البرامج والمبادرات، ساعدتنا الخبرات التي تمتع بها الفريق على صقل تركيزنا وتحديد البرامج التي يجب التخلي عنها بدلاً من اللجوء إلى تحليل البيانات المعقدة. في الواقع، سمحت هذه العملية بمستوى أعلى من المشاركة والالتزام من قبل أعضاء الفريق أدت إلى تحول في طريقة تفكيرنا وأصبحنا نركّز على "القيمة الاجتماعية" بدلاً من القياس في حد ذاته.

ومن خلال التشجيع على المناقشات الصريحة والصادقة، تمكنا من توثيق الأفكار والخبرات والمعارف المكتسبة من التجارب السابقة وتعزيز ثقافة الشفافية والثقة. وقد اعتمدت المؤسسة في النهاية نموذج بطاقة الأداء لتقييم أثرنا، مما سمح لنا بإيصال النتائج الكلية التي حققناها بوضوح مع الالتزام بمبدأ "البساطة" الذي بقي النجم الذي نهتدي به.

وقد قمنا بتحسين مجموعة أولية بلغت نحو 400 مؤشراً من مؤشرات الأداء الرئيسية وصولاً إلى نحو حوالي 30 مقياساً أساسياً يمكننا استخدامها للإبلاغ عن النتائج على مستوى المؤسسة. كما حرصنا على أن تكون عملية جمع البيانات بسيطة بما يكفي لتكون مجدية. وفي حال كنا سنعتمد على مديري البرامج المثقلين عادة بالمهام لجمع البيانات ومشاركتها، كان من الضروري مساعدتهم على إدراك أهمية هذا العمل. وباختيار المقاييس المشتركة لجميع برامجنا، تمكنا من تنظيم العملية.

"لا يتعلق قياس الأثر فقط بالأدوات بل أيضاً بطريقة التفكير وأخذ الوقت الكافي للوقوف والتأمل في ما نعرفه بالفعل".

لا يتعلق قياس الأثر فقط بالأدوات بل أيضاً بطريقة التفكير وأخذ الوقت الكافي للوقوف والتأمل في ما نعرفه بالفعل. فالأساليب التقنية والمتزمتة جداً قد تفوت فرصاً هائلة.

وكما تقول كارولين فاينس، المستشارة في مجال العمل الخيري المقيمة في المملكة المتحدة، ليس كل ما هو مهم قابل للقياس. وتضيف كارولين في حديثها عن دعم صندوق ’ويلكوم تراست‘ Wellcome Trust لفك شفرة الجينوم البشري: "لقد ضخ ’ويلكوم تراست‘ الأموال في هذا المشروع - الذي كان سباقاً ضد شركة خاصة - لضمان أن لا يصبح الجينوم البشري ملكاً للقطاع الخاص. فذلك قد يعني أن هذه الشركة قد تمنع الوصول إلى الجينوم البشري، مما قد يقلل بشكل كبير من فائدته وما لذلك من عواقب وخيمة على التقدم الطبي والصحي. ومن المحتمل أن يكون لتمويل ’ويلكوم‘ عواقب وخيمة على جميع الأشخاص في جميع الأوقات. لكن هل تعتبر هذه العواقب قابلة للقياس بدقة؟ لا. وهل كانت متوقعة بأي قدر من الدقة عندما قرر ’ويلكوم‘ تقديم هذا التمويل؟ لا. ولكن هذا لا يهم لأنه من الواضح أن الفوائد كانت كبيرة جداً".

لكن في غياب معايير للصناعة، لا يوجد حل سحري. مع ذلك، من الجيد أن نبدأ بالأساسيات: ما هي المشكلة التي نحاول حلها وكيف يمكننا معرفة ما إذا كنا قد نجحنا في ذلك؟ ما هي بعض البيانات المشتركة - بين جميع أنشطتنا - التي يمكننا تتبعها ومراقبتها؟ وكيف يمكننا تطوير مجموعة بسيطة من المقاييس التي يمكننا استخدامها لإظهار تأثيرنا في المجمل؟

عليك التأكد من إتاحة الوقت. وفقط عندما تنتهي من جمع البيانات الأساسية يمكنك البدء في بناء عمليات أكثر تعقيداً. لست بحاجة للوصول إلى الكمال منذ اليوم الأول بل الأهم من ذلك هو إيجاد طرق لإلهام ديناميات جديدة للفريق وتعزيز التعلم المؤسسي وتحويل الرصد والتقييم إلى عمل يرغب الناس في الانخراط فيه بقوة، بدلاً من الشعور بأنه عمل روتيني مفرط في البيروقراطية يسعون جاهدين إلى تجنبه.